logo

يتفاعل المكان مع الإنسان نتيجة سكناه فيه وممارسة مناشطه فيكتسب تاريخاً ودلالات ومكانة فتتشكل من ذلك شخصية المكان. ويصدق هذا بشكل خاص حين تكون للمكان قداسة خاصة تمنح ساكنه أو زائره المؤمن إحساساً يصعب على غير الساكن والزائر معرفتها والتفاعل معها. والمدينة المنورة بتاريخها المتجذر في تاريخ المسلمين واحتوائها على الكثير من أقدس الأماكن التي تحتفظ بها الذاكرة ويرسخها المعتقد، وفي طليعتها مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيته الذي دفن فيه وإلى جانبه صاحباه أبو بكر وعمر، رضوان الله عليهما، اكتسبت شخصية فريدة لدى المسلمين فصارت مهوى أفئدتهم. يضاف إلى ذلك أن المدينة شهدت معارك الإسلام الأولى ومدافن الكثير من صحابة رسول الله سواء ممن استشهدوا في تلك المعارك أو ممن انتقلوا إلى الرفيق الأعلى بعد جهاد طويل في نشر الرسالة وإعمار الدولة الإسلامية وملء الأرض بنور الله.

 في طليعة العناصر التي تشكل الشخصية المكانية أو الجغرافية للمدينة المنورة تأتي جبالها التي تعد امتداداً إلى الشمال لجبال الحجاز والسراة وما تحتويه تلك الجبال من أودية وما يحيط بها من حرّات (جمع حرّة) مثل حرة خيبر وحرة عويرض، ويعني ذلك أن معظم المدينة حوض تحيط به المرتفعات الجبلية. ويعني ذلك أيضاً أن التركيبة المكانية للمدينة تتشكل من ثلاث عناصر : الجبال والأودية والحرات. وهذه الأخيرة عبارة عن تكوينات بازلتية تشكلت نتيجة المقذوفات البركانية القديمة جيولوجياً، وهي من أكثر ما يرتبط بأذهان الناس حين تذكرالمدينة من الناحية الجغرافية، فهي محاطة بها من الجنوب والشمال والشمال الغربي والغرب والشرق.

أما الجبال فلا شك أن جبل أحد الذي يعلو شامخاً إلي جانب مدينة رسول الله بارتفاع يصل إلى 1072م هو أشهرالمرتفعات، إلى جانب جبال الوعيرة وجبل ثور (1115م). وجبل أحد عنصر أساسي في شخصية المكان الذي تشكل في المدينة فصار جزءاً من تاريخها الإسلامي واكتسب حضوراً خاصاً في الذاكرة الدينية. فقد دارت حوله وعلى صخوره ثاني أشهر المعارك التي خاضها المسلمون عند نشر الدعوة وتأسيس دولتهم، كما أن له حضوراً بارزاً في الحديث النبوي، فقد ورد في حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أحد جبل يحبنا ونحبه» وقيل في تسميته بأحد أنه متوحد عن غيره من الجبال، وقيل أيضاً لارتباطه بمناصرة أهله لدعوة التوحيد. يقول شاعرالمدينة المعاصر محمد العيد الخطراوي في قصيدة حول جبل أحد يستذكر فيها بعض تلك الدلالات :

(أحد) والحجيــــــج، والقلب خفق              ضارع للإله، غض الرجــــاء

والمروءات حشــرجات وثكل                 والتــــواريخ رغبة في البكــــاء

ونــزوع إلى التســاؤل عمــــا                ورثته الآبــــاء للأبـنــــــــــــاء

ها هنا كان موقف الناس يومــاً               وهنـــا كان مصرع الشـــــهداء

وبقايـــا من ريحهــــم وخطاهم             تتأبـــــى علـــى صــروف الفنـــاء

في مثل هذا التفاعل يخرج المكان عن دلالته الجغرافية العلمية الجافة إلى فضاء الدلالة الإنسانية الأرحب حيث يمتزج التاريخ بالجغرافيا بالعقيدة وبالطموحات والآلام. ويتكرر ذلك في معالم أخرى من معالم المدينة المنورة، جبالها ووديانها وتربتها وحراتها ومناخها، ولكن أهم من ذلك كله مقدساتها التي بناها المسلمون والتي يأتي في طليعتها المسجد النبوي وغيره من المساجد مثل مسجد قباء ومسجد القبلتين. وقد سمي الأخير بهذا الإسم لأن جماعة من صحابة رسول الله كانوا يصلون باتجاه القدس الشريف، قبلة المسلمين الأولى، فأُخبروا بتحول القبلة إلى مكة المكرمة فغيروا اتجاه صلاتهم، فكان أن صلى في المسجد باتجاه قبلتين مختلفتين. أما مسجد قباء فهو أول مسجد بني في الإسلام إذ إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو الذي خطه بيده عند قدومه مهاجراً من مكة. ويقع المسجد حالياً وسط عدد من مزارع المدينة الخصبة بنخيلها وتمورها المشهورة بعذوبة مذاقها.

روابط ذات صلة