يمكن لنا أن نتبين ثلاث مراحل حاسمة في بدء التاريخ الإسلامي : نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بدأه بالدعوة للدين الجديد بين أهله ومن حوله بمكة المكرمة، وأخيراً هجرته ومن هاجر معه من صحابته إلى المدينة لتخرج الدعوة بذلك إلى العالم أجمع. المرحلة الأخيرة، كما سبقت الإشارة، كانت أيضاً بداية تاريخ المدينة المنورة بوصفها عاصمة الإسلام في تلك المرحلة المبكرة. وكان من أبرز ما تميزت به تلك الهجرة تنامي المجتمع المسلم بمؤاخاة الرسول (صلى الله عليم وسلم) بين من هاجر معه، أو المهاجرين، وأهل المدينة ممن عرفوا بالأنصار، أي من ناصروا رسول الله باحتفائهم به وبمن معه حين خرجوا من مكة إلى مدينتهم فلم يكتفوا بالدخول في الدين الجديد وإنما تقبلوا القادمين إليهم إخوة في الدين والمصير.
بدأت الهجرة النبوية بعد مكث النبي في مكة ثلاثة عشر عاماً وبعد تغلغل الدين الجديد بين أهل المدينة من قبيلتي الأوس والخزرج (الأنصار). وقد اختلف في التاريخ الدقيق لقدوم رسول الله وأبي بكر إلى المدينة، ولكن المشهور هو 12 ربيع الأول الموافق شهر سبتمبر (أيلول) من عام 622 للميلاد بعد أن استغرقت مدة الرحلة خمسة عشر يوماً. وقد استقبل المهاجرون إلى المدينة استقبالاً حافلاً فأنشد أهل المدينة، كما ورد في بعض المصادر، بالنشيد المشهور :
طلــــع البــــــدر علينـــا من ثنيات الوداع
وجب الشكـــــر علينـــــا ما دعــــا لله داع
وكان ذلك تعبيراً عن البهجة الغامرة والاستثنائية التي قوبلت بها الهجرة النبوية في بلاد الأنصار الذين مدحهم الله تعالى في الآية : «والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولايجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولوكان بهم خصاصة» (الحشر, 9), وهي آية ترسخ أيضاً قيمة كبرى من قيم الإسلام حيث تبرز أهمية البذل والتضحية في سبيل الله وتأكيداً للحمة بين المسلمين.
أقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في دار أبي أيوب الأنصاري فترة من الوقت ثم بنى مسجده ومسكنه الخاص به وبأزواجه. وأقام من معه من المهاجرين في دور الأنصار الذين استضافوهم. بعد ذلك بنى رسول الله وأصحابه مسجده المعروف الآن بالمسجد النبوي وكانت مواد بنائه مما كان متاحاً عندئذٍ، أي من الحجارة واللبن وجذوع النخيل وجريدها، وكانت مساحته 60*70 ذراعاً. وكانت قبلته في تلك المرحلة بيت المقدس، أي قبل تحول القبلة إلى مكة المكرمة. وما لبثت حركة العمران أن ازدهرت بمجيء المهاجرين وابتنائهم الدور، ومر المسجد النبوي نفسه بتوسعات متلاحقة كان أولها في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ومع ازدهار المدينة تعززت مكانتها المقدسة بوجود الرسول وصحابته، وكذلك بنزول الوحي وجعل أرضها منطقة حراماً لايقتل صيدها، تماماً كما هي الحال في مكة المكرمة.
بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اجتمع صحابته رضوان الله عليهم في «سقيفة بني ساعدة» وهي من المواقع الهامة في المدينة وفي التاريخ الإسلامي، حيث تحدد فيها المستقبل السياسي للدولة الإسلامية باختيار الصحابة لأبي بكر خليفة. والسقيفة تقع إلى غرب المسجد النبوي حالياً بعد زوال المبنى القديم وتحولها حالياً إلى حديقة ملاصقة للمسجد بعد توسعته.
لقد حرص خلفاء رسول الله، الخلفاء الراشدون الأربعة، على العناية بالمدينة ومقدساتها وأهلها، وكذلك فعلت الدول الإسلامية المتعاقبة، إلى أن جاء العهد الحديث الذي ترتبط بدايته بامتداد النفوذ العثماني إلى غرب الجزيرة العربية في القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي، حيث حظيت تلك الدولة في عهد سليم الأول بشرف رعاية الأماكن المقدسة في الحجاز خلفاً لدولة المماليك التي كانت قد استولت على الحجاز في القرن الخامس عشر الميلادي وفوضت أمورالحرمين لأمير مكة من الأشراف. وكان أحد أولئك الأمراء، وهو الشريف بركات بن محمد بن بركات هو الذي أعلن الولاء للسلطان العثماني عند استيلاء العثمانيين على مصر.
كان لاستيلاء الدولة العثمانية على أرض الحرمين، ومنها المدينة المنورة، أهمية خاصة لتعزيز سلطة تلك الدولة والرفع من مكانتها في العالم الإسلامي، وحرص السلاطين العثمانيون على الإتفاق السخي على أهل الحرمين من حكامها الأشراف وعلمائها والمجاورين والفقراء وغيرهم، كما استمروا في تفويض سلطاتهم على أرض الحرمين لحكام الحجاز، كما فعل المماليك من قبلهم.